السبت، 5 ديسمبر 2009

أزمة دبي: نهاية عصر «المعلقات» الاستثمارية (2-2)

كتب مصباح قطب/ لفت النظر في أزمة مديونية دبي أنه لم تتم مناقشتها في مجلس الوزراء الاتحادي، الذي يرأسه الشيخ محمد بن راشد نفسه، أو المجلس الوطني ــ يقوم بدور مجلس شورى ــ في الوقت الذي يطالب فيه الشيخ محمد العاصمة (أبو ظبي) بتحمل مسؤوليات تجاه المديونية، مشدداً على أن دبي جزء لا يتجزأ من الاتحاد، ولائماً من يتحدثون عنهما كإمارتين مستقلتين.

ويكاد لسان حال من يسمعه يقول: (في الهم مدعية وفى الفرح منسية) فقد كانت المنافسة بين الطرفين قد بلغت حد إطلاق اسم الناقل الوطني على طيران دبي وكأنها بديل طيران الإمارات. أيضا فإن الشيخ الذي قام بعملية تغيير واسعة في قيادات الشركات القابضة والتابعة المملوكة للحكومة لم يعلن نتائج أي تحقيقات أجريت مع من كان قد تم اتهامهم رسميا بالفساد في الأشهر الماضية بعد اندلاع الأزمة المالية، كما لم يعلن الأسس الجديدة التي تم بناءً عليها استبعاد قيادات واختيار أخرى، والمعايير التي ستقوم عليها الاختيارات مستقبلا، وهل ستنتهي بالفعل سياسة أهل الثقة قبل الخبرة.

ومن المفارقات أن الشيخ محمد كان قد قال منذ أيام في اجتماع منتدى دافوس للأعمال بدبي، إن الصمت والفراغ المعلوماتي سمحا للشائعات حول اقتصاد دبي بأن تنتشر، ووعد بالوضوح والاتصال المفتوح، وعليه في هذه اللحظة أن يفي بوعده وأن يقدم على الأقل كشف حساب عن مديونية دبي العالمية وكيف تفاقمت إلى هذا الحد، وأين كان مراجعو حسابات الشركة وموقف التدفقات النقدية للمشاريع المختلفة، وموقف شركات التأمين التي تولت التأمين على القروض.. الخ. لقد دأب الدكتور سلطان أبوعلي، وزير الاقتصاد المصري الأسبق، على القول إن مصر ستبدأ في التأثر بالأزمة العالمية من أول يناير وفبراير المقبلين ولم يقدم تفسيرا كافيا..

وبعد أن ظهرت مديونية مجموعتي الصانع والقصيبي في السعودية (٢٢ مليار دولار) فجأة في الشهر قبل الماضي، وبعد أن ظهرت مديونية دبي العالمية وأخواتها فجأة الأسبوع الماضي، فإن كثيرين يخشون أن تكون هناك مخفيات كثيرة في البنوك والشركات الكبرى بالذات العاملة فيما يسمى بجزر النعيم الضريبي، ودبي ــ تقريبا ــ واحدة منها، وأن تلك المخفيات ستظهر لاحقا مما يهدد اقتصادات كثيرة، منها المصري وغير المصري، وبالتالي فإن الدكتور أبوعلي لديه بعض الحق.

وكان من دروس الأزمة أيضا أنه لا يصح إلا الصحيح.. إذ ليس مصادفة أن موانئ دبي ــ إحدى وحدات دبي القابضة ــ لا تزال محتفظة بقوتها، وهى من كبرى شركات تشغيل الموانئ في العالم ذلك لأن الميزة الظاهرة في دبي هي الموقع الفريد في طريق تجارة الشرق مع الغرب والعكس، وقد كانت عملية توظيف الميزة في بناء موانئ عملاقة ومحطات ترانزيت قرارا رائدا وسباقا،

أما ماعدا ذلك من مشاريع الأعلى والأوسع والأقوى.. فكلها تحتاج إلى مراجعة. ويبقى القول إن الخطوة الجبارة التي اتخذها حكيم العرب الشيخ زايد بإقامة الوحدة الفيدرالية بين الإمارات السبع بحاجة إلى خطوة أخرى لا تقل شجاعة حتى تستطيع الإمارات أن تواصل سيرها بأمان، فلا يمكن أن يستمر البزنس في النمو دون إطار سياسي حديث ومساند، ولعل تلك اللحظة تلهم قادة الإمارات الكرام إلى تلك الخطوة فيقومون مثلا بتوسيع وتفعيل مجلس الشورى أو ما يشبه، فأهل مكة أدرى بشعابها،

كما أن مشروع التنمية هناك لابد أن تكون له جماهير تسانده بالداخل وتشارك فيه وتذود عنه وتتحمل من أجله التضحية إذا تطلب التضحية في لحظة كتلك التي نعيشها. المضاربون ووسطاء أسواق المال أكثر من يصرخ عند الأزمات وأول من يفر، ومثلهم المدراء الخواجات وتابعوهم. تجربة دبي ملك لكل العرب، ومن واجبنا جميعا أن نعمل على استمرار توهجها.

- نشرت في المصري اليوم – مصرية يومية مستقلة، 3 ديسمبر 2009

تأملات في أزمة دبي: نهاية زمن «المعلقات» الاستثمارية (١-٢)

كتب مصباح قطب/ ينتمي الشيخ محمد بن راشد - حاكم دبي، رئيس وزراء الإمارات العربية، نائب رئيس الدولة - إلى ما يسمى تيار المستقبل في العالم العربي وهو التيار الذي كان قد ظهر بمساندة سعودية في البداية على أيدي رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان، الذي اغتيل بتفجير غادر.

وقد نشأ التيار نشأة شبه أيديولوجية إذ كان هدفه مواجهة نموذج الشمولية الاقتصادية السائد في المنطقة، وبصفة خاصة في سوريا والعراق ومصر «وحالياً إيران»، لحساب أفكار السوق الحرة والاقتصاد المفتوح، وتوسع التيار بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وبات يجاهر بخطابه، ليس الاقتصادي فحسب، ولكن أيضاً السياسي دون مواربة، خاصة بعد أن تضعضعت دولة تحالف العسكريين والبيروقراط ولاحقاً ضم «المستقبل» أقطاباً مختلفة،

وأظن أن جمال مبارك وسيف الإسلام القذافي وآخرين في الخليج والمغرب العربي ينتمون إلى هذا التيار، وتجمعهم معاً روابط كثيرة، ويتفقون رغم تبايناتهم على الحرص الدائم على توجيه سهام النقد على الفاضي والمليان إلى تجربة عبد الناصر في الستينيات،

وكأن ذلك من شروط العضوية. ومن المصادفات الغريبة أن التيار رفع رايته في البداية عبر مشروع عقاري حداثي أقامته «سوليدير» الحريري في وسط بيروت، وكان يستلهم تجربة الغرب في مساندة إنشاء كيانات «تلعلع» مثل هونج كونج وسنغافورة لمخايلة جماهير ونظم دول التخطيط المركزي،

ثم وصل مشروع تيارنا المستقبلي إلى ذروته في تجربة الدولة/ الشركة، أو الدولة/ المدينة، المتلعلعة، المتمثلة فيما قام به الشيخ بن راشد بحيوية في دبي لكن ذلك النموذج يتعرض، وللمصادفة، ثانية للاهتزاز بشدة حالياً بسبب مشروع عقاري أيضاً «شركة نخيل» انكشفت حساباته بعد تباطؤ تصريف الوحدات وتراجع أسعارها.

أعرف مسبقاً أن دبي لن تغنى مطلع معلقة امرئ القيس الشهير «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل...» فلديها من الأصول ما يكفى لسداد المديونيات بالراحة، وستقوم بعد كل «المقاوحة» الراهنة بتسييل بعض الأصول وبيع بعضها الآخر لأبوظبى أو لشركاء محليين أو إقليميين،

ومن المحتمل في أي لحظة إعلان التوصل إلى صيغة توافقية لجدولة المديونية بعد الشد والجذب مع أبوظبي والضغوط على الأخيرة التي يتم فيها استخدام أطراف خارجية - كإنجلترا - بل واستخدام توابع الإعلان المباغت بقصد عن المديونية لإثارة نوع من الفزع بالأسواق بهدف إجبار الدائنين كافة على التنازل عن جزء من المديونية وتوفير السيولة للإمارة، وسيرتبط إعلان الجدولة بلاشك بتعهدات وبإصلاحات هيكلية كان بن راشد نفسه قد شرع في بعضها،

كما سيرتبط بتعهد بشفافية أكثر وحدّ من المضاربات التي تقوم بالكثير منها أطراف في الحكم أو محيطة به. ستنتهي إذن بهذا الشكل أو ذاك قصة المديونية ولن تنتهي دبي أو تفلس لكن سيبقى من قبل الأزمة ومن بعدها شيء ما يجب أن يتغير، وشيء ما يجب أن يغرب.

أول ما يجب أن ينتهي عصر تحويل المشاريع الاستثمارية إلى ما يشبه قصائد المعلقات في الجاهلية التي تعلق على أستار الميديا والأسواق المالية لتباهى بها هذه القبيلة/ العائلة الأخرى... المشاريع التي تقام دون دراسات كافية أو حتى دون دراسات بالمرة بغرض الفخر والحماسة والهجاء بمعنى تعيير الآخرين.

وينطبق ذلك على المنافسة بين دبي وأجوارها التي تفاقمت بعد رحيل مؤسس الاتحاد الشيخ زايد رحمه الله.. «يتعمل هنا مشروع يتم الإعلان عن أنقح منه على الناحية الأخرى» وقد تدخل عدد لا بأس به من ضعاف الذمم والسماسرة لتغذية هذه النزعة بهدف مضاعفة عمولاتهم مستغلين ضعف المساءلة والرقابة وفردية القرار، وهكذا.

من الدروس المهمة أيضاً أن سياسة القفز إلى الأمام فوق المشاكل لابد لها من نهاية، إذ كان من الواضح أن ملامح أزمة النموذج قد بدأت تظهر قبل الأزمة العالمية، وكان يتم الغطرشة عليها بالإعلان عن مشاريع عملاقة جديدة دون تحديد موقف القائمة بالفعل وضبط حساباتها، بل والإعلان عنها بحفلات إطلاق «لونشنج» شديدة البذخ وكان آخرها الإعلان عن افتتاح فندق اتلانتنس الغاطس في عز الأزمة بقصد الإيحاء بأن كله تمام ياريس أو يا شيخ.

من المهم وقد أحكم المحيطون بالحكم الدائرة حوله أن نصدقهم القول فلا يمكن أن تسير الأمور في ظل اختلاط الحكم بالإدارة بالملكية بالرقابة مهما حسنت النوايا، ولا يعقل أبداً أن يصبح الرقيب مستثمراً حيث لا يمكن للمنافسة الصحيحة أن تعمل في أجواء كتلك، وقد بات من الضروري عمل نوع من فصل الملكية عن الإدارة في الإمارة، أو ربما في الإمارات كلها.
نشرت في المصري اليوم – مصرية يومية مستقلة، 2 ديسمبر2009