الأحد، 15 نوفمبر 2009

الساسة والعدو اللدود

" اللئيم" الذي يكافئ المدين ويعاقب الدائن عاد ليطل برأسه. لا يمكن أن أنسى الحوارات التي دارت حوله مع مجموعات الزملاء من الأقسام الاقتصادية بالصحف العمانية فى ابريل الماضي خلال ورشات التدريب التي رعتها وزارة الإعلام وكيف أبدع كل فريق منهم فى تصوير أثاره -أو بالأدق آثامه - وتجسيدها حين كنا نتبارى فى كيفية التعبير عن مصادره وانعكاسه على حياة الناس واستخدام الرسوم والأشكال التوضيحية فى هذا السبيل.عرفتم بالتأكيد اننى أتحدث عن التضخم والذي طالما اعتبرته عدو الفقراء اللدود .اننى احترم تماما المنطق الكامن وراء القول بان قليل منه يصلح المعدة الاقتصادية اى يحفز أصحاب المشاريع على التوسع والمبادرين على اقتحام مناطق جديدة لاستخدام الموارد المتاحة فى توليد نمو وفرص عمل وتحقيق أرباح ليعاد تدويرها فى مزيد من المشاريع وهكذا.اقدر هذا القول وافترض حسن النية فيمن يبررون به السياسات التوسعية وما يصاحبها من انفلات فى الأسعار .لكن أظل على اعتقادي بان الموقف من التضخم كان وسيكون أهم معيار للحكم على اى سياسي أو تنفيذي فى الزمن المقبل كما أومن بان قدرة اى نظام سياسي على صنع وصيانة الاستقرار ستتوقف على مدى استطاعته لجم هذا الغول وتحجيم هجومياته على محدودي الدخل طوال الوقت . ليست المسالة إعلان السلطة النقدية إنها تستهدف التضخم وكفى أو إعلان وجود تنسيق دائم بين السلطتين النقدية والمالية لضمان عمل التوازن المطلوب بين النمو واستقرار الأسعار . الموضوع ابعد من ذلك مع الأهمية البالغة للعنصرين السابقين فمحاربة التضخم بكل بساطة تستلزم ارداة كافية وواعية للتصدى للمستفيدين منه والواقفين وراءه. فى معيته – اى التضخم - صاحب الأصول يكسب وصاحب الدخول (الأجور ) يخسر فالأصول ترتفع قيمها والسلع التي يشتريها العامل بنفس الأجر تتناقص .. من عليه للبنوك يكسب لأنه سيسدد أموالا قلت قيمتها عن تلك التي اقترضها رغم انه ظاهريا ملتزم بسداد الفوائد ومن له ودائع يخسر لان الفارق يتسع مع التضخم المنفلت بين سعر الفائدة الاسمي وسعرها الحقيقي . إذن اتخاذ سياسة مناهضة للتضخم يعنى اتخذا موقف مع أو ضد خلال التعامل مع المعادلات السابقة وأربابها. ليغفر لي القراء إذا نسبت لنفسي فضيلة ما وأنا العبد الفقير إلى رحمة ربه بأوسع المعاني ، اننى اشعر بالآثار النفسية والسلوكية والاجتماعية للتضخم وكاننى مقياس " ريختر" المخصص لرصد هزاته وزلازله ... المس ملامح التغير فى نبرة الجيران والبواب والأهل فى القرية والمعارف وهم يردون تحية أو يطلقونها فى الأوقات التي يبدأ فيها الوحش فى البروز من مكمنه.. تقل الحميمية وتبدأ بوادر التوتر فى الظهور وتخفت نبرة الرحمة . أميز فى صوت سائق سيارة الأجرة ملامح تململ مكتوم لو أعطيته نفس الأجرة التي اعتدت دفعها فى الوقت الذي يكون فيه التضخم قد بدا يكشر عن أنيابه دون أن يكون قد ظهر بشكل واضح يجعل من تغيير الأجرة عملا مبررا ومقبولا . أكاد اعرف فى حينا من هو الذي ستجرفه موجة ارتفاع الأسعار هذه المرة إلى الجريمة لان دفاعاته الدينية والأخلاقية وخوفه من القانون والعقاب ستنهار تحت وطأة الضغط العنيف للأسعار المرتفعة – فى السلع الأساسية بالذات – على حياة الناس . يحسب البسطاء الأمور بمعايير محددة للغاية ولا يمكن خداعهم بشأنها.. بكم تشترى زجاجة زيت الطعام و الكيلو جرام من الجبن الأبيض أو من السكر أو الأرز ومصفوفة البيض وطبق الفول وخبز الأولاد وبعض الخضروات. اللئيم عاد ليطل بوجهه لكن كما قال المثل اليوناني الأشهر انك لاتستحم فى النهر مرتين بنفس الماء وكما أضاف اللاحقون ولا حتى مرة واحدة فكل شيء رهن التغير والتبدل طوال الوقت فما الذي طرا ياترى على منابع موجة التضخم الجديدة وما الذي استجد على تجلياته فى الأسواق المحلية والدولية ؟ .يجئ التضخم عادة من مصادر خارجية كالواردات من السلع والخدمات أو من قرارات إدارية تصدرها الحكومات كرفع أسعار الوقود مثلا أو من زيادات فى الدخول أو من احتكارات واختناقات فى الأسواق الداخلية أو من توسع نقدي او من صدمات عرض مفاجئة اى نقص مباغت فى المعروض كالتي حدثت فى أسواق الدواجن واللحوم من جراء أنفلونزا الطيور أو التي تحدث نتيجة تغيرات مفاجئة فى الطقس فى دولة من الدول بما يؤثر على الأسعار العالمية لمحصول اساسى تنتجه وهكذا ا. لكن الأزمة المالية العالمية نبهتنا إلى حقائق أخرى على رأسها الزيادة الرهيبة فى معروض الدولار- عملة الارتكاز الدولية – والتي لا تتناسب بحال مع الإنتاجية والإنتاج والصادرات فى الولايات المتحدة الأمريكية وهى الزيادة التي دفع ثمنها العالم كله بدرجات وأيضا تحول الكتلة الرئيسية فى طبقة المبادرين العالمية والمحلية إلى المضاربات المالية بديلا عن وجع القلب فى الإنتاج والمنافسة والابتكار والتطوير ما اوجد طفيلية دولية متشابكة المصالح راحت تتعيش بلا رحمة على حساب كل من يعمل او ينتج أو يوزع وابتكرت فى هذا الصدد أشكالا وصيغا شتى للتحايل والاستنزاف وكان من نتائج ممارسات هذه الطبقة أن رأينا أن عناصر التكاليف الظاهرة فى بلد من البلاد لسلعة من السلع – مثلا – كانت تبدو مستقرة ومعقولة غير أن شيئا خفيا يدفعها فى مرحلة غير منظورة إلى الارتفاع ليؤثر بشدة على سعر المنتج النهائي.. انه تكلفة الطفيلية المالية والاستشارات الوهمية والمناقلات الشكلية والفساد الذي تخلق فى تلك الأجواء وأصبحت له مطامع تتجاوز آفاق الفساد التقليدي بمراحل . وحين وقعت الواقعة المالية هب الكبار فى العالم لمعالجة هذا الوضع الذي هددهم فى عقر دارهم وتوصلوا إلى بعض النقاط فيما يخص تنظيم الأسواق المالية و العاب الحواة المالية ومعايير الرقابة على البنوك ومديريها وفيما يتعلق بجزر النعيم الضريبي .لكن يخطئ كثيرا من يتصور أن " وول ستريت" ستسلم بتلك السهولة ولا أعنى هنا حي المال فى أمريكا فقط ولكن كل " وول ستريت" فى اى بقعة من العالم. لقد بدأت أسعار بعض السلع الأساسية تعانى تقلبات حادة من جديد وبما لايعكس مستوى الندرة فيها مثل السكر والأرز واللحوم والألبان وقد سبق ذلك عمليات مضاربة على الذهب – لازالت مستمرة وتتصاعد – كان هدفها فى تقديري الالتفاف حول القيود التي وضعت على حركة الأموال فى أسواق المال من ناحية وإظهار قوة المتلاعبين بالسيولة من ناحية أخرى والإيحاء بان زمن المضاربات السعيد سيعود ومن هنا بدأت موجة تضخم عالمية ومحلية تطل برأسها بدرجات متفاوتة مدعومة بأحاديث عن بدء تعافى الاقتصاد العالمي. إن الخطورة الشديدة تكمن فى أن هذا الارتباط الشرطي بين ظهور التضخم مرة أخرى وبين العودة إلى النمو سيولد مرارة بين الفقراء ومحدودي الدخل إزاء النمو والتعافي هذين .. إنهم يرون انه كلما ثارت أحاديث عنهما وعن نوع النمو السريع بالذات اندلعت نيران التضخم وتحولت حياتهم إلى جحيم . وكما قلت منذ عام إن أهل قريتي كانوا يبتهلون إلى الله أن يديم نعمة الأزمة المالية العالمية لان أسعار السلع التي تعنيهم تراجعت بقوة فإذا أردنا من الجمهور العام أن يساند سياسات الإصلاح والنمو السريع لا بد أن نتفهم هذا النوع من المخاوف ونحاول أن نطمئن الناس بجدية ونحميهم من توابعهما وعلى رأسها " اللئيم " . ليست صدفة أبدا أن يكشف استطلاع الراى الذي أجرته " بى بى سى" مؤخرا عن موجة رفض واسعة فى العالم كله لسياسات السوق الحرة حتى فى الدول التي نجت من بطش الأزمة العالمية ولازال النمو الجيد يتواصل فيها كما أنها ليست صدفة أن تبدأ فى العالم موجة اهتمام واسعة هذه الأيام بدراسات فوائد النمو السلبي أو غير الموجب أو النمو صفر أو النمو المحدود . الم اقل لكم أن التضخم صاعدا أم هابطا هو الذي سيحدد المزاج السياسي لعالم الغد ؟ .

.ينشر اليوم الاحد 15 نوفمبر بصحيفة عمان العمانية

الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

بين إمبرياليتين

مصباح قطب

قال الشاب الهندي بثقة وتؤدة: كل هذا مجرد منظر- أي شكل فقط- ولا جوهر فيه، كما أن صانعيه وورثتهم الحاليين بلا أخلاق، والحضارة الحقيقية في الهند.

كانت مفاجأة صادمة لأني سمعت الجملة الفائتة خلال جولة في العاصمة الصينية بكين، وفى قلب قصر الإمبراطور( الشعب ) الدرة المعمارية بالبلاد والواقع في ميدان السلام السماوي الشهير.


حدث ذلك منذ عامين خلال زيارة وفد رسمي إلى الصين، وكان الهندي مكلفا بتوفير خدمات الاستضافة للوفد.كان شابا مسلما شديد الذكاء والحياء، يتملك هو وزوجته شركة سياحة تعمل هناك. كان الشاب قد تفوق في إحدى المسابقات التي يقيمها المركز الثقافي الصيني في الهند لتعليم اللغة الصينية وفاز بالجائزة: زيارة الصين، وفى نفس الوقت كانت فتاة مصرية خريجة كلية الألسن قد تقدمت لذات المسابقة في القاهرة وفازت أيضا بنفس الجائزة. وخلال تواجدهما في الصين تعرفا على بعضهما وتزوجا.أقدار!.

المهم إنني ظننت الشاب في البداية متعصبا لدينه وحيث أغلبية الصينيين من غير المؤمنين بالرسالات السماوية، أو متعصبا لوطنه حيث التنافس حاد بين البلدين:الهند والصين، على الساحة الدولية وبصفة خاصة بعد بدء انحسار الهيمنة الأمريكية نسبيا.

الطريف أنه حين حاولت فتاة أن تعرض علينا بمكر "خدماتها العاطفية" كما تفعل كثيرات غيرها مع السائحين في هذا المكان، شدنا الشاب بقوة (كان معي الزميل حسن عامر) ونبهنا إلى ضرورة ألا نفتح أي حوار مع هذه النوعية من البنات أو السيدات حيثما وجدن ... بدا وكأنه خاف أن نضعف أمام إغوائها في تلك الغربة، فأراد قطع الطريق علينا رغم أنه أكد أنه أحبنا لثقته في أخلاقنا!.

قدم انفعاله ذاك دليلا آخر على أن حكمه على الصين وأهلها يمكن أن يكون مبعثه كراهيته لصور التحلل الشائعة هناك عياناً. لكن ثقافة الشاب الواسعة وهيئته وحديثه المفصل عن الفارق بين جماليات المعمار في الهند والصين، ضاربا مثلا بالمسافة الهائلة بين تاج محل وبين قصر الشعب، ومثلا آخر للفارق بين النموذج الأخلاقي لغير المؤمنين بديانة سماوية في الهند والنموذج نفسه لدى الصينيين، كل ذلك دل على أن الشاب ليس ممن يمكن اختزال شخصيتهم في بعد واحد.

وبدا القلق يساورني حين تأملت وحدات الزخرفة الخشبية (الكرانيش) في حواف القصور والشرفات والتي تميز أي مبنى تاريخي أو معبد كونفوشي بالصين، وهالني أن ما فيها من تكرارية ينطوي على استسهال غير مريح بالفعل، كما أن ألوانها التي تبهر من بعيد تشي بخواء إبداعي ما عند الاقتراب منها، وخزنت ذلك في الذاكرة إذ قلت إنه لا ينبغي أن يندفع المرء في الحكم على حضارة عريقة بتلك السرعة، فحاولت أن أهرب من النفور الذي رافقني حيال النمط المعماري السائد في الصين والذي رأيناه في بكين وشنغهاي وشين داو، والمتمثل في مبان شاهقة مزججة وغير مزججة لكن الروح التجارية تهيمن عليها بالكلية. قلت أيضا لا تنسى مهارات لاعبي السيرك المذهلة (سوفت وير) وصلابة الفكرة والحجر في سور الصين العظيم (هارد وير) الذي زرناه وعبقرية امتصاص الأفكار وتطويرها، وقلت لنفسي كذلك أنه أيا ما كان الأمر فإن نمط الزراعة النهرية خلّف في كل مكانٍ حلَّ به نموذجاً أخلاقياً وثقافياً وحضارياً، فلماذا نستثنى الصين منه؟

نسيت الأمر... وقبل فترة تجددت الأسئلة الحائرة عن مضمون رسالة الصين الحضارية في عالم اليوم والغد، واندفعت كلها إلى رأسي، فقلت إننا نردد دائما " كلنا في الهم شرق"، طيب: إذا كنت سأتكلم عن الشرق ذاته موطن سكنى المهمومين، أليس من الواجب إسماع بني قومي حتى سابع جار ومنهم قاريء هذا المقال صوت أسئلتي؟.

دعيت مؤخراً إلى ملتقى بعنوان "ثمار الديموقراطية...تدعيم مؤسسات السوق وتعزيز رفاهية المواطن " أقيم في القاهرة بتنظيم من مركز المشروعات الدولية ( يتبع الغرفة الأمريكية للتجارة ) واستمع وتحاور الحضور خلاله إلى متحدثين من واشنطون عبر الأقمار الصناعية معهم حول قضية العلاقة بين الاقتصاد الحر والتحول الديموقراطي. كان أكثر ما شدني تنبيه متحدث من أوربا الشرقية، هو روبرت ليتان (نائب رئيس مؤسسة كوفمان للبحوث والسياسات) إلى خطورة تزايد إعجاب الأمريكيين بالاوتوقراطية الصينية بالذات بعد الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. ولم يكمل بالقول أن ملايين الأمريكيين فقدوا وظائفهم، وبيوتهم لكن الصين واصلت تحقيق معدل نمو ايجابي ولم تفقد إلا القليل من فرص العمل بسبب تراجع الصادرات، لكنها عوضت ذلك بزيادة الطلب المحلى. لكننا فهمنا من تلقاء أنفسنا ما الذي يعنيه ليتان بملاحظته، وتفسيرها.

الأنكى أن المتحدث مد الخط على استقامته باتجاه لم يخطر على البال؛ إذ قال ما الذي سيحدث إذا أصبحت الصين صاحبة أعلي ناتج محلى عالمي بدلا عن الولايات المتحدة؟ وأين ستكون الديموقراطية وقتها؟ وترك السؤال بدهاء، ولم يجب. وعلى الفور قفز الشاب الهندي إلى صدارة شاشة العقل خارجاً من قاع الذاكرة المتعبة. بعد انتهاء المتحدث تم فتح باب النقاش فقلت إن الصين لم يكن لها تاريخ استعماري، لكن المرء يصاب بالقلق حين يفكر بالفعل في اللحظة التي ستهيمن فيها الصين على العالم، ونتائج ذلك من النواحي السياسية والثقافية والعسكرية، وأخشى أن نقول وقتها أن الإمبريالية الأمريكية بكل جرائمها كانت أرحم؛ فلدى الولايات المتحدة سينما تحب أن تشاهدها، وتنوع معرفي واجتماعي مثير للفضول، وموسيقى وغناء ومسرح وأسلوب حياة "لايف ستايل" يشد الشباب في كافة أرجاء العالم، ولديها رسالة ولو مُدَّعاة بالاعتناء بالديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات والشفافية والحوكمة والإصلاح... الخ، فأين الصين من كل ذلك؟

وما الذي نود أن نسمعه من غنائها أو موسيقاها؟ وما الذي يشكل ذوقنا من عاداتها أو يثرى أعيننا من فنها التشكيلي أو..أو. إنك لن تحصل على إجابة لو طرحت تلك الأسئلة إزاء اليابان التي تحتل المرتبة الثانية اقتصاديا الآن بعد الولايات المتحدة، وتنتمي إلى الثقافة الآسيوية كالصين. فما الذي سيجعل الأخيرة مختلفة (لن ينسى سكان القاهرة فرقة الكابوكي المملة في افتتاح مبنى الأوبرا الممول يابانيا).

لقد زرت منذ فترة قصيرة الجناح الصيني في معرض لفنون التراث بسلطنة عمان، وأزعجني أيضا أنني لم أتحمس لشراء أي من القطع التقليدية رغم رخص الثمن والبراعة الظاهرية للصانع الذي يشكل القطعة أمامك. أمر ما بلاستيكي يمنعك في اللحظة الأخيرة من الاندماج في الشيء – الصيني – الذي يشدك عن بعد إلى أن تقترب منه. لقد شربت فقط شايا أخضر كانت تعده فتاتان صينيتان يافعتان - حقا!!- وفق طقوس خاصة لافتة تشعرك أنك هارون الرشيد وأن هاتين جاريتين لك!!. حركات فيها ما ينتمي إلى التسويق لكن لا يخفى ما فيها من عراقة التقاليد ومن موروث عصور من الذكورية!!. عدت أيضا إلى ذاتي فقد لاحظت تصاعد الاهتمام الصيني بإقامة مراكز ثقافية بالعواصم الكبرى في السنوات الأخيرة ومحاولات لإبراز الطابع الإنساني للنهوض الاقتصادي الصيني، وذلك في أعقاب موجة التنبيه إلى أهمية القوة الناعمة للدول. لكن المشوار لازال طويلا؛ فلم يبرز بعد محتوى صيني ذي مغزى...وقد لا يظهر. حين ذهبنا للتسوق خلال رحلة بكين التي أشرت إليها وقع ما كنا علمناه من آخرين، فالبائعة الصينية تظل تتدلل وتتودد إليك و" تدلعك" حتى تنتهي المعاملة التجارية، وفى لحظة ما بعد دفع النقود مباشرة تقلب وجهها لك و تظهر كمن لا تعرفك البتة. وأظن أن البعض يمكن أن يستجلب ذكريات شبيهة. إنها المادية البدائية إذن. فهل ستستمر أم أنها مجرد رد فعل عابر على قرون من الجوع والحرمان والمعاناة مع الطبيعة؟.

خلال مناقشات مع مثقفين أصدقاء حول مخاوفي، قلت إن اليابان هي الأخرى لم يكن لها تاريخ استعماري، لكنه انبثق فجأة مع تبلور طموحها الاقتصادي الحديث وارتكب الاستعمار الياباني في الصين بالتحديد أكثر المذابح وحشية ودموية في التاريخ الإنساني قاطبة. فهل سيتكرر ذلك مع صعود الصين أم أن تغيرات داخلية و عالمية ستحول بينها وبين الحاجة للعدوان؟. وفى الأثناء علمت خبرا خطيرا... فقد سعت الحكومة المصرية منذ سنوات لإقامة تعاون استثماري مع الصين في شمال غرب خليج السويس تعثر الأمر دون سبب واضح رغم أن الصينيين كانوا قد قالوا إنها المنطقة الأفضل للاستثمار في العالم، وتبين أن السلطات المصرية هي التي غضت البصر لأن الصينيين طلبوا توطين عدد كبير من عمالتهم مع ما سيقام من مشاريع، وهو مبدأ مرفوض، فهدف مصر ذاتها من توسيع جغرافية التنمية هو: خلخلة الكثافة السكانية العالية بمدنها وقراها، يعنى "مش ناقصة" ."المعروف" أن الصين عرضت إعارة عبد الناصر ربع مليون جندي لمحاربة إسرائيل مع الجيش المصري بعد هزيمة يونيو، لكنه رفض بشدة.

بالتداعي تنبهت إلى صورة تواجد المهاجرين الصينيين في البلاد التي يحلون بها والتي تأخذ دائما نمط "شاينا تاون" والتي أصبحت موجودة في كل ولاية أمريكية والأغرب أن السيدات اللواتي يطرقن أبواب المنازل في مصر حاليا لبيع بضائعهن الصينية بدأن يتحلقن في تجمعات قد تصبح كل منها " شاينا تاون" مستقبلا. قد يكون الأمر تلقائيا؛ فكل غريب للغريب نسيب، لكن للمرء أن يتخيل الصورة حين تكون الصين القوة رقم واحد في العالم، ولها مشكلة مع هذه الدولة أو تلك، وإمكانية أن تحرك بسلطتها المركزية الطاغية أبناءها هؤلاء؟.

التداعيات لا حد لها، لكن ما اقصده أن نشغل البال بالموضوع فهو يخصنا ويخص غيرنا إلى أبعد الحدود. النهر والفقر والتسلط هم الذين شكلوا شخصية الصينيين عبر التاريخ، فأي عنصر من أولئك وتأثيراته سيبرز لنا حين تحتل الصين القمة؟ الله أعلم.
...
منشور في العدد الجديد- نوفمبر- من مجلة عالم الاستثمار الإماراتية.

الأحد، 1 نوفمبر 2009

مادة "أخلاق المهنة"

كتب مصباح قطب


يقول المثل العامي المصري : " قالوا للحرامى احلف قال جاءك الفرج "، أي أن اللص مستعد وبسهولة لان يقسم بالباطل على انه بريء ، ليتخلص من مأزقه ، ومن ثم يتعين على من يريد الوصول إلى الحقيقة أن يتخذ وسائل أخرى ، ومن الواضح أن المثل السابق ، المفرط فى واقعيته، يقلل من اثر ما هو قيمي فى كبح اللصوص والفاسدين ، بيد أن الأمر ليس كذلك أو لايمكن أن يكون كذلك ، على الأقل فى غالب الحالات ، إذ تخبرنا الحياة طوال الوقت بما لا ينتهي من القصص التي تؤكد أن الإنسان لم يزل هو الإنسان ، بما هو مفطور على أن يكون صاحب معتقد روحي وأخلاقي، أيا كانت طبيعته ، ومع التسليم بتزايد نسبة الانحراف عن هذا القانون العام .

ومن الواضح أن الفوضى التي تسود عالمنا العربي قد كرست أو تكرس نوعا من اليأس من أي قاعدة أخلاقية لضبط الممارسات العملية ، ففي أي محفل ما يكاد امرئ يقترح عمل ميثاق شرف للمهنة الفلانية أو العلانية إلا ويهب بعض الحضور للسخرية من هذا المنهج ويقولون لك إذا كانت كتب الله السماوية ذاتها لم تردع البشر ، فهل ستردعهم تلك المواثيق التي يسنها بشر ؟. ثم يروحون يعددون المواثيق التي صدرت من جهات عمل عربي مشترك أو جهات مهنية عربية أو تنفيذية ويسردون فى شماتة كيف تم الالتفاف عليها أو إهمالها التام ورميها جانبا الخ ، ورغم الوجاهة الظاهرية لذلك المنطق فان آخرون يردون مؤكدين على أن ذلك ليس لعيب فى المواثيق ذاتها أو فى الرهان الذي تنطوي عليه – أي الرهان على الضمير الأخلاقي للإنسان - كما أن أحدا لم يقل أبدا أن سن المواثيق هو بديل عن اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات قانونية مدنية لردع المخالفين أو المنحرفين .

عن نفسي كثيرا ما أرد على منطق الساخرين بالقول أن كتب الله وألواحه لم تتنزل مرة واحدة ولم ترسل للعلم والإحاطة لمرة واحدة ، فى حياة كل إنسان ، وإنما ليتم التذكير الدائم بها ، والحث على إتباع تعاليمها ، وتقديم القدوة من الصفوة الأخلاقية فى المجتمع، حتى يرى الغافلون أي راحة وأي انسجام نفسي بل و أي نجاح حقيقي ذلك الذي يمكن أن يتمتع به الإنسان المتمسك بها ، والأمر نفسه ينطبق على مواثيق الشرف إذ يجب على الجهات التي تتبناها أن توالى الحث على تطبيقها والدعوة للعض عليها بالنواجذ وعزل المتحللين منها ولو معنويا ، بل وتأديبهم وفقا للقواعد المنصوص عليها فى تلك المدونات ذاتها ، ليشعروا بان ثمة خسارة لا يستهان بها من جراء خروجهم عليها . أقول كل ما تقدم لأني انتوى أن اطرح عليكم أمرا : أن نشغل أنفسنا فيما تبقى من الصيف وعلى مداخل رمضان الكريم فى أمر النزاهة ومكافحة الفساد وان نتعلم ممن سبقونا فى هذا المجال.

هناك اتجاه عالمي قوى لإنشاء معاهد أخلاقيات الأعمال وتدريس مادة أخلاق المهنة فى كليات مستقلة أو ضمن مواد الدراسة فى كليات الإعلام والتجارة وإدارة الأعمال وقد جمعني منذ أيام لقاء بأعضاء المجلس الاستشاري للشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد بمصر وهو مجلس تطوعي يضم مثقفين وإعلاميين ورجال أعمال وجامعيين وأصحاب وصاحبات خبرات عملية نشطاء المجتمع المدني وممثلين من جهات حكومية معنية بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها مصر منذ فترة طويلة ( الكاتب مشارك فى عضويته ). يرعى اجتماعات المجلس ، بمعنى توفير مقر مناسب للاجتماع والنقاش ، مركز المشروعات الدولي (سايب ) . كنا نبحث كيفية إطلاق مبادرات للحد من الفساد وقسمنا أنفسنا إلى مجموعات تبارت فى اختيار أهم القضايا التي يجب التركيز عليها واقتراح أجندات عمل للتصدي لها وبيان كيفية تمويلها ونوع الأنشطة التي ستقوم بها المجموعة والتحالفات التي ستبنيها الخ.

وأود هنا أن انقل للقراء بعض ما توصلنا إليه لعله يفيد فى مجتمعاتنا العربية . لدينا أولا دعوة لإقامة مرصد لمتابعة إعلانات المناقصات والمزايدات العامة والتعرف على مواطن الخلل بها وكشفها وتلقى أي شكاوى بشأنها والدعوة إلى سن قوانين وقواعد عصرية وشفافة وعادلة للمناقصات والمزايدات وكان من رأينا أن من شان ذلك أن يمنع فسادا لا آخر له . اقترحنا أيضا ، وجريا على السائد عالميا كما سلفت الإشارة ، تدريس مدونات القيم فى الكليات العملية والنظرية على السواء ، أو إنشاء معاهد خاصة لهذا الأمر ، على ألا يلتحق أي مواطن بوظيفة ، قبل أن يحصل على دورة فى تلك المادة (مدونة الأخلاق ) ، وبناء تحالفات للنزاهة حول مبادرات محددة تنتقل إلى غيرها حالما أدت الغرض منها ، والدعوة إلى تبنى نظام محامى المواطن أو الشعب المنصوص عليه فى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (امبودسمان ) فى كل جهة تنفيذية وفقا للمعمول به فى دول مثل فرنسا أو السويد أو كندا مع تعديل النموذج بما يناسب مجتمعاتنا ، وإعادة هندسة دورات المستندات والأعمال فى شركاتنا ومنظماتنا الحكومية لإزالة ما بها من تعقيدات وبما يحول دون استفادة الفاسدين مما فيها من غموض ، وتطوير ونشر المعايير الأساسية لأداء الأعمال فى الدول المتقدمة ومقارنة أوضاع مؤسساتنا بها (مثلا كم يستغرق استخراج رخصة مرور فى بلد متقدم وكم عندنا ) ونشر تقارير سنوية عن أفضل وأسوأ المؤسسات فى أداء الخدمات للمواطنين وتبنى مفاهيم جديدة لحماية الشهود والمبلغين عن وقائع الفساد ، وإشراك المؤسسات الدينية فى حملات لمجابهة الفساد بدلا من أن يظل الخطاب الديني الرسمي يعمل – تقريبا - فى فراغ ويسير على وتيرة تقليدية لا تثير الحماس للفضيلة والشرف ، و لجعل المجتمع ينفر من تلك الممارسات ويتشجع على التصدي لها ( قلت للحاضرين تخيلوا مثلا تأثير شعار يقول : لا تتزوجوا بناتهم -أي الفاسدين- ولا تزوجوهم بناتكم ) .

ونبهنا إلى وجوب إيلاء عناية خاصة فى متابعة معدلات الربح السائدة فى النشاطات الاقتصادية المختلفة حيث تؤكد الخبرة العملية انه كلما زادت معدلات الربح فى فرع اقتصادي معين عن الحدود المعقولة والمقبولة كلما كان هناك إغراء باستخدام الإفساد للحصول على الصفقات ( الذي سيكسب عشرات الملايين من مجرد الحصول على توقيع معين غالبا سيكون على استعداد لدفع نسبة معتبرة كرشوة للحصول على هذا التوقيع ) أيضا قلنا أن دور المرأة مهم للغاية فى التصدي للفساد لأنها كمربية وزوجة أول من تعلم به وتحسه ولا يعقل أن يكون هناك موظف كل راتبه لا يزيد عن بضع مئات من الجنيهات بينما يمنح زوجته مثلها كل يوم أو ينفق هو مثلها ولا تسال الزوجة نفسها من أين جاء بالمال أو تسأله .

بالطبع هناك أعمال مؤسسية وتشريعية وتنظيمية كثيرة يمكن القيام بها لمجابهة الفساد ، فوزارة الاستثمار فى مصر أنشئت ، وعلى سبيل المثال ، لجنة للشفافية والنزاهة ومكافحة الفساد ، وولت عليها واحدا من أفضل الخبراء الذين عملوا لسنوات فى وزارة الخارجية المصرية ( السفير احمد رجب ) ويمكن إنشاء وحدات من هذا النوع فى كل جهة مصرية أو عربية لتتابع وتدرس وتقترح وتدق نواقيس الإنذار كلما دعت الحاجة ، وهناك احتياج إلى تفعيل قواعد محاكمة المسئولين الكبار وتوسيع نطاق ما يسمى بقواعد المسئولية الاجتماعية للشركات وإدماج المدونات الأخلاقية فى تلك القواعد والتأكد من أنها ليست للشهرة والمنظرة. الخلاصة إن الحد من الفساد وإراحة الناس مما يجلبه من مشاق وتكاليف وما يسببه من يأس وفقدان للثقة والانتماء ، ممكن، بل وهو واجب وضرورة عملية ، حتى قبل أن تكون دينية أو قانونية . ألا يستحق كل ما تقدم أن نشغل بالنا به؟

أغسطس 2009

ندوة: " الضربة المائية" مفتاح نصر أكتوبر

كتب مصباح قطب

في ندوة بنادي الصيد احد ابرز أندية الصفوة المصرية قال المحاسب فؤاد مصطفى أن " الضربة المائية" كانت مفتاح النصر فى حرب أكتوبر قبل الضربة الجوية أو أي شيء آخر وطالب المجتمع بإنصاف أبطال فتح السواتر الترابية على طول خط القتال فى بدء العبور وعلى رأسهم اللواء مهندس باقي زكى يوسف ضابط المركبات الذي ابتكر فكرة فتح خط بارليف الحصين بمدافع المياه.

شعر اللواء باقي وكان ضيف اللقاء الذي تم منذ أيام بالحرج وهو من الأصل رجل شديد التواضع والبساطة ولم يشأ أن يعلق لكنه قال فى وقت لاحق أن الله هو الذي دبر كل شيء بحيث جعلني أعود للميدان بعد الانتداب فى السد العالي الذي قمنا عند إنشائه بإزاحة ملايين الأمتار من الرمال بالمياه ووضعني في الجبهة بالفرقة 19 تحت قيادة اللواء القوى سعد زغلول واوجد اللواء ممدوح التهامي في موقع نائب رئيس هيئة العمليات وكان على راس الفرقة 19 قبلها مباشرة ووفق سلاح المهندسين وقيادته فى ترجمة الاقتراح إلى واقع وغير ذلك من عوامل مهدت لاستيعاب الفكرة والإضافة إليها والحفاظ على سريتها حتى آخر لحظة ثم تنفيذها . فى تلك اللحظة علق احد الحاضرين بالقول أن اللواء باقي يكاد من فرط نكران الذات أن يعتذر عن كونه صاحب الفكرة .

أضاف اللواء باقي : كنا جاهزين للعبور وتلقينا أمرا بالاستعداد له فى نهاية مايو 1969 وكنا سنعبر حتى لو لم نبتكر مدافع المياه ومهما كانت الخسائر المقدرة وقتها ب 20 ألف شهيد فلم يكن احد يفكر فى الموت موضحا أن فتح الساتر عن طريق القنابل والمدافع والمتفجرات والصواريخ كان سيحتاج 15 ساعة ما يجعلنا عرضة لخسائر ضخمة لكن المدافع المائية اختصرت الوقت إلى ثلاث ساعات وعدة دقائق وجعلت عدد الشهداء فى الموجة الأولى لا يزيد عن 87 مقاتلا و لفت إلى أن مناقشة الفكرة التي واتته فجأة في اجتماع قيادة الفرقة 19 ليلا يوم تلقى أمر الاستعداد للعبور المشار إليه انتهت في منتصف الليل وبعد 12 ساعة كانت الفكرة فى القيادة العامة للقوات المسلحة بعد المرور بقيادة الجيش الميداني وبعد 6 أيام وصلت إلى جمال عبد الناصر الذي أمر بتنفيذها ودراسة أي تطوير ى يلزمها .

رفض اللواء باقي الرد على الأسئلة الخاصة بكيف تعبر مصر الحواجز الضخمة التي تعوق انطلاقها وتؤدى لتدهورها الراهن واكتفى بالقول أن علينا أن نوكل كل شيء إلى الله وان نعمل ما علينا فالصعوبات التي تواجهنا كلها اقل بكثير من صعوبة اجتياح خط بارليف ووسط حالة شديدة العاطفية فى الاحتفاء بالبطل قالت عضوات اللجنة الثقافية بالنادي أن وجود مثل اللواء باقي هو الذي يعصمنا من الإحباط الشامل الناجم عن تراجع مصر وأشار الدكتور أمير إسماعيل عبده الأستاذ بمركز البحوث إلى أن أهم ما في قصة مدافع المياه قصر المسافة بين القمة والقاعدة مما مكن ضابطا مثل اللواء (مقدم وقتها ) باقي من إيصال فكرته إلى رئيس الدولة فى جو من الجدية والعمل الجماعي واحترام العلم وتساءل هل يستطيع أي صاحب فكرة حاليا أن يجد الأمناء الذين يوصلونها وينسبونها لصاحبها ويرفعونها إلى قيادة الدولة ؟ .جرت مطالبات بان تقوم القوات المسلحة بما لها من قدرة وعزم بالتدخل لحل مشاكل الإسكان والمياه والنظافة والزراعة الخ لكن اللواء بالمعاش السيد الملط قال أن الواجب الأول للقوات المسلحة يجب أن يظل الدفاع عن الوطن .

واعتبر الدكتور نبيل شحاتة المدرب الأسبق لمنتخب الطائرة القومي أن نكسة مثل صفر المونديال لم تكن مجرد قصور فى التنظيم أو الإعداد ولكنها محصلة طبيعية لغياب الوطنية والإرداة وروح الفريق التي ميزت مصر حتى 1973 وتعجب المهندس وليام شنودة - من بناة السد- من أن نبنى السد فى عشر سنوات ونعبر فى 6 ساعات ونعجز لثلاثين عاما عن حل مشاكل مياه الشرب والري والنظافة .أدار الندوة المهندس محمد محرم رئيس اللجنة الثقافية بالنادي.