الأربعاء، 11 نوفمبر 2009

بين إمبرياليتين

مصباح قطب

قال الشاب الهندي بثقة وتؤدة: كل هذا مجرد منظر- أي شكل فقط- ولا جوهر فيه، كما أن صانعيه وورثتهم الحاليين بلا أخلاق، والحضارة الحقيقية في الهند.

كانت مفاجأة صادمة لأني سمعت الجملة الفائتة خلال جولة في العاصمة الصينية بكين، وفى قلب قصر الإمبراطور( الشعب ) الدرة المعمارية بالبلاد والواقع في ميدان السلام السماوي الشهير.


حدث ذلك منذ عامين خلال زيارة وفد رسمي إلى الصين، وكان الهندي مكلفا بتوفير خدمات الاستضافة للوفد.كان شابا مسلما شديد الذكاء والحياء، يتملك هو وزوجته شركة سياحة تعمل هناك. كان الشاب قد تفوق في إحدى المسابقات التي يقيمها المركز الثقافي الصيني في الهند لتعليم اللغة الصينية وفاز بالجائزة: زيارة الصين، وفى نفس الوقت كانت فتاة مصرية خريجة كلية الألسن قد تقدمت لذات المسابقة في القاهرة وفازت أيضا بنفس الجائزة. وخلال تواجدهما في الصين تعرفا على بعضهما وتزوجا.أقدار!.

المهم إنني ظننت الشاب في البداية متعصبا لدينه وحيث أغلبية الصينيين من غير المؤمنين بالرسالات السماوية، أو متعصبا لوطنه حيث التنافس حاد بين البلدين:الهند والصين، على الساحة الدولية وبصفة خاصة بعد بدء انحسار الهيمنة الأمريكية نسبيا.

الطريف أنه حين حاولت فتاة أن تعرض علينا بمكر "خدماتها العاطفية" كما تفعل كثيرات غيرها مع السائحين في هذا المكان، شدنا الشاب بقوة (كان معي الزميل حسن عامر) ونبهنا إلى ضرورة ألا نفتح أي حوار مع هذه النوعية من البنات أو السيدات حيثما وجدن ... بدا وكأنه خاف أن نضعف أمام إغوائها في تلك الغربة، فأراد قطع الطريق علينا رغم أنه أكد أنه أحبنا لثقته في أخلاقنا!.

قدم انفعاله ذاك دليلا آخر على أن حكمه على الصين وأهلها يمكن أن يكون مبعثه كراهيته لصور التحلل الشائعة هناك عياناً. لكن ثقافة الشاب الواسعة وهيئته وحديثه المفصل عن الفارق بين جماليات المعمار في الهند والصين، ضاربا مثلا بالمسافة الهائلة بين تاج محل وبين قصر الشعب، ومثلا آخر للفارق بين النموذج الأخلاقي لغير المؤمنين بديانة سماوية في الهند والنموذج نفسه لدى الصينيين، كل ذلك دل على أن الشاب ليس ممن يمكن اختزال شخصيتهم في بعد واحد.

وبدا القلق يساورني حين تأملت وحدات الزخرفة الخشبية (الكرانيش) في حواف القصور والشرفات والتي تميز أي مبنى تاريخي أو معبد كونفوشي بالصين، وهالني أن ما فيها من تكرارية ينطوي على استسهال غير مريح بالفعل، كما أن ألوانها التي تبهر من بعيد تشي بخواء إبداعي ما عند الاقتراب منها، وخزنت ذلك في الذاكرة إذ قلت إنه لا ينبغي أن يندفع المرء في الحكم على حضارة عريقة بتلك السرعة، فحاولت أن أهرب من النفور الذي رافقني حيال النمط المعماري السائد في الصين والذي رأيناه في بكين وشنغهاي وشين داو، والمتمثل في مبان شاهقة مزججة وغير مزججة لكن الروح التجارية تهيمن عليها بالكلية. قلت أيضا لا تنسى مهارات لاعبي السيرك المذهلة (سوفت وير) وصلابة الفكرة والحجر في سور الصين العظيم (هارد وير) الذي زرناه وعبقرية امتصاص الأفكار وتطويرها، وقلت لنفسي كذلك أنه أيا ما كان الأمر فإن نمط الزراعة النهرية خلّف في كل مكانٍ حلَّ به نموذجاً أخلاقياً وثقافياً وحضارياً، فلماذا نستثنى الصين منه؟

نسيت الأمر... وقبل فترة تجددت الأسئلة الحائرة عن مضمون رسالة الصين الحضارية في عالم اليوم والغد، واندفعت كلها إلى رأسي، فقلت إننا نردد دائما " كلنا في الهم شرق"، طيب: إذا كنت سأتكلم عن الشرق ذاته موطن سكنى المهمومين، أليس من الواجب إسماع بني قومي حتى سابع جار ومنهم قاريء هذا المقال صوت أسئلتي؟.

دعيت مؤخراً إلى ملتقى بعنوان "ثمار الديموقراطية...تدعيم مؤسسات السوق وتعزيز رفاهية المواطن " أقيم في القاهرة بتنظيم من مركز المشروعات الدولية ( يتبع الغرفة الأمريكية للتجارة ) واستمع وتحاور الحضور خلاله إلى متحدثين من واشنطون عبر الأقمار الصناعية معهم حول قضية العلاقة بين الاقتصاد الحر والتحول الديموقراطي. كان أكثر ما شدني تنبيه متحدث من أوربا الشرقية، هو روبرت ليتان (نائب رئيس مؤسسة كوفمان للبحوث والسياسات) إلى خطورة تزايد إعجاب الأمريكيين بالاوتوقراطية الصينية بالذات بعد الأزمة المالية والاقتصادية العالمية. ولم يكمل بالقول أن ملايين الأمريكيين فقدوا وظائفهم، وبيوتهم لكن الصين واصلت تحقيق معدل نمو ايجابي ولم تفقد إلا القليل من فرص العمل بسبب تراجع الصادرات، لكنها عوضت ذلك بزيادة الطلب المحلى. لكننا فهمنا من تلقاء أنفسنا ما الذي يعنيه ليتان بملاحظته، وتفسيرها.

الأنكى أن المتحدث مد الخط على استقامته باتجاه لم يخطر على البال؛ إذ قال ما الذي سيحدث إذا أصبحت الصين صاحبة أعلي ناتج محلى عالمي بدلا عن الولايات المتحدة؟ وأين ستكون الديموقراطية وقتها؟ وترك السؤال بدهاء، ولم يجب. وعلى الفور قفز الشاب الهندي إلى صدارة شاشة العقل خارجاً من قاع الذاكرة المتعبة. بعد انتهاء المتحدث تم فتح باب النقاش فقلت إن الصين لم يكن لها تاريخ استعماري، لكن المرء يصاب بالقلق حين يفكر بالفعل في اللحظة التي ستهيمن فيها الصين على العالم، ونتائج ذلك من النواحي السياسية والثقافية والعسكرية، وأخشى أن نقول وقتها أن الإمبريالية الأمريكية بكل جرائمها كانت أرحم؛ فلدى الولايات المتحدة سينما تحب أن تشاهدها، وتنوع معرفي واجتماعي مثير للفضول، وموسيقى وغناء ومسرح وأسلوب حياة "لايف ستايل" يشد الشباب في كافة أرجاء العالم، ولديها رسالة ولو مُدَّعاة بالاعتناء بالديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات والشفافية والحوكمة والإصلاح... الخ، فأين الصين من كل ذلك؟

وما الذي نود أن نسمعه من غنائها أو موسيقاها؟ وما الذي يشكل ذوقنا من عاداتها أو يثرى أعيننا من فنها التشكيلي أو..أو. إنك لن تحصل على إجابة لو طرحت تلك الأسئلة إزاء اليابان التي تحتل المرتبة الثانية اقتصاديا الآن بعد الولايات المتحدة، وتنتمي إلى الثقافة الآسيوية كالصين. فما الذي سيجعل الأخيرة مختلفة (لن ينسى سكان القاهرة فرقة الكابوكي المملة في افتتاح مبنى الأوبرا الممول يابانيا).

لقد زرت منذ فترة قصيرة الجناح الصيني في معرض لفنون التراث بسلطنة عمان، وأزعجني أيضا أنني لم أتحمس لشراء أي من القطع التقليدية رغم رخص الثمن والبراعة الظاهرية للصانع الذي يشكل القطعة أمامك. أمر ما بلاستيكي يمنعك في اللحظة الأخيرة من الاندماج في الشيء – الصيني – الذي يشدك عن بعد إلى أن تقترب منه. لقد شربت فقط شايا أخضر كانت تعده فتاتان صينيتان يافعتان - حقا!!- وفق طقوس خاصة لافتة تشعرك أنك هارون الرشيد وأن هاتين جاريتين لك!!. حركات فيها ما ينتمي إلى التسويق لكن لا يخفى ما فيها من عراقة التقاليد ومن موروث عصور من الذكورية!!. عدت أيضا إلى ذاتي فقد لاحظت تصاعد الاهتمام الصيني بإقامة مراكز ثقافية بالعواصم الكبرى في السنوات الأخيرة ومحاولات لإبراز الطابع الإنساني للنهوض الاقتصادي الصيني، وذلك في أعقاب موجة التنبيه إلى أهمية القوة الناعمة للدول. لكن المشوار لازال طويلا؛ فلم يبرز بعد محتوى صيني ذي مغزى...وقد لا يظهر. حين ذهبنا للتسوق خلال رحلة بكين التي أشرت إليها وقع ما كنا علمناه من آخرين، فالبائعة الصينية تظل تتدلل وتتودد إليك و" تدلعك" حتى تنتهي المعاملة التجارية، وفى لحظة ما بعد دفع النقود مباشرة تقلب وجهها لك و تظهر كمن لا تعرفك البتة. وأظن أن البعض يمكن أن يستجلب ذكريات شبيهة. إنها المادية البدائية إذن. فهل ستستمر أم أنها مجرد رد فعل عابر على قرون من الجوع والحرمان والمعاناة مع الطبيعة؟.

خلال مناقشات مع مثقفين أصدقاء حول مخاوفي، قلت إن اليابان هي الأخرى لم يكن لها تاريخ استعماري، لكنه انبثق فجأة مع تبلور طموحها الاقتصادي الحديث وارتكب الاستعمار الياباني في الصين بالتحديد أكثر المذابح وحشية ودموية في التاريخ الإنساني قاطبة. فهل سيتكرر ذلك مع صعود الصين أم أن تغيرات داخلية و عالمية ستحول بينها وبين الحاجة للعدوان؟. وفى الأثناء علمت خبرا خطيرا... فقد سعت الحكومة المصرية منذ سنوات لإقامة تعاون استثماري مع الصين في شمال غرب خليج السويس تعثر الأمر دون سبب واضح رغم أن الصينيين كانوا قد قالوا إنها المنطقة الأفضل للاستثمار في العالم، وتبين أن السلطات المصرية هي التي غضت البصر لأن الصينيين طلبوا توطين عدد كبير من عمالتهم مع ما سيقام من مشاريع، وهو مبدأ مرفوض، فهدف مصر ذاتها من توسيع جغرافية التنمية هو: خلخلة الكثافة السكانية العالية بمدنها وقراها، يعنى "مش ناقصة" ."المعروف" أن الصين عرضت إعارة عبد الناصر ربع مليون جندي لمحاربة إسرائيل مع الجيش المصري بعد هزيمة يونيو، لكنه رفض بشدة.

بالتداعي تنبهت إلى صورة تواجد المهاجرين الصينيين في البلاد التي يحلون بها والتي تأخذ دائما نمط "شاينا تاون" والتي أصبحت موجودة في كل ولاية أمريكية والأغرب أن السيدات اللواتي يطرقن أبواب المنازل في مصر حاليا لبيع بضائعهن الصينية بدأن يتحلقن في تجمعات قد تصبح كل منها " شاينا تاون" مستقبلا. قد يكون الأمر تلقائيا؛ فكل غريب للغريب نسيب، لكن للمرء أن يتخيل الصورة حين تكون الصين القوة رقم واحد في العالم، ولها مشكلة مع هذه الدولة أو تلك، وإمكانية أن تحرك بسلطتها المركزية الطاغية أبناءها هؤلاء؟.

التداعيات لا حد لها، لكن ما اقصده أن نشغل البال بالموضوع فهو يخصنا ويخص غيرنا إلى أبعد الحدود. النهر والفقر والتسلط هم الذين شكلوا شخصية الصينيين عبر التاريخ، فأي عنصر من أولئك وتأثيراته سيبرز لنا حين تحتل الصين القمة؟ الله أعلم.
...
منشور في العدد الجديد- نوفمبر- من مجلة عالم الاستثمار الإماراتية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق