الجمعة، 22 يناير 2010

زمزمية أمل (1 من 2 )

كتب مصباح قطب

وسط الخواء الشامل الذي يحيط بنا. والخواء المضاد الذي ينتجه من يدعون إنهم عكس " دوكهمت " تتوه مصر الحقيقية وتضيع ملامحها. ما دامت مصر- فى النهاية - تأكل وتشرب وتعيش و" تتنهب" فلابد أن هناك من يتعب ليتحقق ذلك ولابد أن هناك من يعمل ولذا لا تفنى العناقيد . الإعلام التجاري و الإعلام البيروقراطي إلا فيما ندر غير قادرين او راغبين فى البحث عن القيمة وسط من ينتجونها بعقولهم وسواعدهم وأرواحهم وبكل ألوان " المدوحرة" والإحساس بالواجب والمسئولية تجاه الانسانية والوطن دون ضجيج أو ادعاء . يخشى المرء أن يؤدى طنين الخراب الراهن إلى ألا يعرف الناس ان بلدهم لايمكن أبدا اختزالها فى هؤلاء " العقماء "الذين يمسكون بمقاديرها ويريدون أن يرثوها بالحيا . فى احتفال جوائز ساويرس الثقافية منذ أيام كنا إزاء مئات المبدعين فى القصة والرواية والمسرحية والسيناريو الذين تقدموا للمسابقات واستوفوا شروطها ولم نكن قد سمعنا عن 95 % على الأقل منهم من قبل وقد جاءوا من كل صوب فى البلاد وقال المحكمون عن أعمالهم التي فازت والتي لم تفز إنها تتسم بالجسارة والجدة والقدرة الهائلة على الإدهاش ولذلك سالت حاضرين من مجلس أمناء المؤسسة : لماذا تبدو مصر فى هذه اللحظة غنية وعفية وعلى مبعدة خطوات فى الشارع والمؤسسات السياسية والتنفيذية والحزبية وحتى الثقافية والمدنية تبدو فقيرة بائسة محطمة الوجدان والضمير ومبعثرة ؟ . كان من رأى سميح ساويريس إن السبب هو أن النخبة اللي ماسكة الأمور مش نخبة أصلا وهى أفقر من أن تستقطب " الغنى" ، المعرفى ، والاقتدار، أو تشجعهما إن لم تكن تعتبرهما أعداء . قبلها بيومين كنت على موعد آخر مع مصر الأخرى… حيث عشت أياما فى الجبل بقنا وسوهاج وأسيوط مع عمال وفنيين وإداريين ومساحين ومهندسين يعملون فى شبكة طريق الصعيد البحر الأحمر( 412 كيلومتر تخترق صحراء مصر الشرقية ) وتعرفت إلى أبعاد أخرى لمعنى الإنسان والإيمان والوطنية والشرف بل ولمعنى الحياة والشمس وسأشرح . يعمل الناس هنا من أول ضوء إلى آخر ضوء حرفيا والشاطر فيهم اللي يلحق يصلى العشاء او يتفرج على مباراة كرة مذاعة ليلا بسبب الإعياء. تعمل الشمس هنا – كالبشر - باستقامة وجدية حيث لفت نظرنا أنها تنحدر ساعة المغيب بسرعة غير معهودة وكأنها لا تريد أن يطول يوم العارقين ولو لدقيقة أكثر رأفة بهم . منبر المسجد فى استراحة العاملين بوادى قنا ارتفاعه 40 سم لكن رائحة الإيمان العميق تنبعث شامخة من كل فعل وحرف وكلمة وسلوك ولقمة أو حتى أسمال بالية معلقة على منشر غسيل ليلا . الألفاظ المهنية منحوتة بعناية وممتلئة بالمعنى ... ألفاظ مثل "سماحيات" اى نسب السماح بتجاوز قاعدة معينة ، والدمك والهرس والتبب (جمع تبة ) والتكاسى اى كسوة التراب المائل بالحجر لمنع الهيل ، والمساطيح وهى المصاطب التي تقام فى أسفل التعليات الترابية المعمولة لردم خور عميق وأيضا هدفها منع الهيل ،و " الرابطة" اى الطبقة العليا من الإسفلت وهكذا . تتعجب من سر تلك الصداقة بين هؤلاء البشر حيثما حلوا وبين الاخضرار .. ففي قلب الصخر والرمل بكل منطقة كان ثمة من زرع زهورا وقد رأينا كيف زرع عمال أمام مساكنهم البسيطة فولا اخضر وجرجير وأيضا : سيسابان… انه النبات الذى كنا نتغنى به مديحا فى البنات اللواتي نحبهن ونحن فى فرق مقاومة الدودة بالأرياف : يا محلا ضل الساسبان ،السا سا… بان .. الساسا .. بان، مستمتعين بالتورية الحسية الكامنة فى نطق الكلمة مقطعة . رأينا عمالا تمر عليهم أسابيع لا يأكلون فاكهة ليوفروا قروشا رضية لأسرهم ولا يأخذون الإجازات المقررة هم ومهندسوهم (7 أيام كل 25 يوما ) تطوعا . يقتصر طعام البعض ممن يبيتون فى الجبل أو الاستراحات على الفطيرة " أم زيت" و" أم" جنيه أو جنيه ونصف مع كوب شاي مصنوع فى كنكة سمك الهباب عليها نحو سنتيمتر!!
---
عن المصري اليوم ١٧ يناير ٢٠١٠

mesbahkotb@yahoo.com

هناك تعليق واحد:

  1. المقال رائع

    والفيلم أكثر من رائع

    يكفي أنه ركز على العمال الغلابة

    م. أحمد القاضي
    المكتب الفني - أسيوط - شركة حسن علام

    ردحذف