الاثنين، 25 يناير 2010

«زمزمية» أمل (٢-٢)

بقلم مصباح قطب ٢٤/ ١/ ٢٠١٠

افتتاحية التضحيات بطريق الصعيد ـ البحر الأحمر بدأت عند محاولة صعود لودر من خور وعر ينخفض ٧٣ مترا عن منسوب الطريق بوصلة سوهاج فقد انقلب اللودر ومات اثنان وقد رأيت الطريق الذى سقطا منه وتعجبت كيف غامرا أصلا بارتقائه فدرجة ميله نحو ٨٠ بلا مبالغة أى أنه يكاد يكون عموديا.

فيما بعد عرفت قصصا أخرى عمن دفعوا حياتهم ورحلوا بلا نصب تذكارية إلا ما سال من دموع صادقة وحارقة من زملائهم فى الشقاء واللقمة.. الحزن على الموتى هنا مزلزل لأن العشرة بين الناس حقيقية وقد أخجلنى ذلك حين تذكرت حزننا البلاستيكى السمج على الأعزاء الذين يرحلون وننساهم بعد أول عبارتى مواساة فور تلقى النبأ: مش معقول.. ياه.. الله يرحمه. بالمصادفة تصادمت سيارتا نقل على مبعدة مئات الأمتار منا فى قلب الجبل لأن السائقين كانا مسرعين باندفاع بغية نقل كميات رمال وحجارة أكبر لينالا أجرا إضافيا.

مات واحد وتركنا الثانى بين الحياة والموت... لا يهز المرء شىء قدر أن يخرج إنسان أجير إلى باب الله سعيا إلى رزق حلال فيعود إلى داره قبل موعد نهاية الوردية جسدا بلا روح وربما اشلاء جسد. يتطلب الطريق الذى سيفتتح الرئيس «الفردة» الأولى منه ربما نهاية هذا الشهر تنفيذ أعمال بحجم ٧٣ مليون متر مربع من التراب (السد العالى الرمز ٤٣ مليونا).

وتطلب لنسف الصخور ٨٠ طنا ديناميت فى تفجير واحد فقط و٢٢ كيلو مترا من المواسير لزوم عمل برابخ للسيول كما تطلب استخدام نحو ٩٠١ معدة ثقيلة من أصناف شتى غير ما يقدمه مقاولو الباطن مع عامين ونصف من العمل من أكثر من ٢٠ ألف إنسان وسيتبقى ما لن يكتمل إلا فى ٢٠١١.

مشاق لا مثيل لها وقصة هندسية وتمويلية وتنموية غاب عن ذاكرتنا مثلها منذ سنين طويلة. قال عامل «شوكة» أمى بتلقائية إن الطريق هو أحسن مشروع خيرى للبلد دى واعتبر آخرون أنه سيحسب فى ميزان حسنات من عملوا به لأن من سيزورون النبى الغالى بحرا سيمرون عليه (هنيالهم وعقبالى).

شرح آثار الطريق التنموية المتشعبة يطول لكن أهم ما ينطوى عليه هو تحدى إنشائه بعد عشرات السنين من التردد وآلاف السنين من الحلم بأن يعانق النيل البحر الأحمر.. كأننا نعود إلى قبس من الزمن الذى قال رشدى سعيد إن النيل فيه كان يصب فى البحر الأحمر قبل أن تقود صدفة جيولوجية فذة إلى فتح طريق له إلى المتوسط. فى منطقة بوادى حبيب بأسيوط ثمة ٤٠٠ متر مذهلة من الطريق تمر بين منخفضين سحيقين وهى ناتج ردم بارتفاع ٨٠ مترا قال مسؤول عن هذه الوصلة التى تحيط الجبال منخفضيها إنها تذكرنا بـ«الصراط» فى الآخرة.

هدير المعدات المدوى فى وادى «جوردى» على مبعدة بوصلة سوهاج (يجرى فيه إتمام تعلية بارتفاع ٧٥ مترا وبالتوازى خفض صخور جبلية مجاورة ارتفاعها أكثر من ٦٥ مترا ليمر الطريق) هدير خلق ليبقى فى الأذن كترتيلة حب لمن عمل هنالك.. «الفاحت نازل والبانى طالع» كما قال أولاد البلد فسلام على الصاعدين من صاحب أول ضربة فى الجبل إلى زارع آخر «عين قطة» معدنية على الطريق لتضيء للمسافرين ليلا. سلام. سلام، ولا نامت أعين اللصوص والطفيليين والطائفيين سارقى الفرح والأمل وحتى كحل العيون.

عن المصري اليوم ٢٤ يناير ٢٠١٠

mesbahkotb@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق