الثلاثاء، 2 مارس 2010

مصر- الجزائر: اقتصاديات التطرف

حين زرت الجزائر لأول مرة منذ عامين وكنت وقتها ضمن بعثة رسمية لفت انتباهي بشدة الطبيعة الساحلية الهادرة بالقوة والجمال معا فى شمال تلك البلاد وبالتوازي غياب الاهتمام الملائم بالاستثمارات السياحية سواء الوطنية أو الأجنبية الأمر الذي طرح أكثر من علامة استفهام حول مدى رغبة الجزائريين فى استغلال تلك الطبيعة المتفردة ومدى إدراكهم لقيمتها، وهم أذكى من أن يفوتهم ذلك، وأكثر حيوية من أن يستعصى عليهم.

وفى مساء ثاني أيام الزيارة دار نقاش بين أعضاء بالبعثة وآخرين حول تفسير الأمر، وهل للثقافة دور أو بمعنى آخر هل لتكوين الشخصية الجزائرية الصلب والعنيد دور فى النفور من العمل السياحي أو الأعمال الخدمية بشكل عام أم أن هناك أسبابا أخرى وكان الجواب التقليدي هو تحميل الإرهاب المسئولية عن تطفيش المستثمرين العرب والأجانب الذين كان يمكن لهم أن يعوضوا انصراف الجزائريين عن ولوج ذلك المجال بقوة بل وتطفيش من يفكر من الجزائريين أنفسهم ولكن كان من رأيي أن علينا أن نبحث عن عامل اسبق يفسر انفجار الإرهاب ذاته هنا خاصة أن العنف والتطرف فى البلاد الإسلامية ارتبطا شرطيا وبالدرجة الأولى بمعاداة النشاط السياحي والعاملين به والسائحين بشكل عام وليس أدل على ذلك من انفجارات اندونيسيا حديثا والحوادث الإجرامية التي سبقتها فى الأقصر بمصر وفى فنادق بالعاصمة المصرية أو أمام متحفها الرئيسي منذ سنوات لا أعادها الله وأضفت إن علم الإجرام الكلاسيكي لا زال يصلح لإضاءة الغموض وبالذات قاعدته الذهبية التي تقول " فتش عن المستفيد وراء كل جريمة" وقبل أن يقول الحاضرون : " وبعدين يا أبو العريف" أو أن يتهمونني باني صاحب عقل تآمري قلت : تصوروا أن الجزائر نالت الحصة التي تستحقها فى السياحة الدولية فعلى حساب من سيكون ذلك ... أليس من المحتمل أن تكون قوى سياحية كبرى فى دول جنوب المتوسط هي التي وضعت – بالتعاون مع أجهزة الشر والتآمر – بذور الفتنة الدينية وتركتها لتنمو بعد ذلك وحدها حسب قانون كرة الثلج المتدحرجة ليظهر الأمر وكأنها نشأت ذاتيا وذلك حتى تمنع – مع أهداف أخرى – تطور السياحة فى بلدنا العربي هذا ؟ . أليس من الوارد حين تحتل الجزائر مكانتها السياحية اللائقة أن يفضل نصف العرب الذين يذهبون إلى اسبانيا وفرنسا ولندن و.. و.. المجيء إلى الجزائر الشقيق للاستمتاع بمطرها وسحابها وجبالها وزهورها البرية وتمرها الشفاف المعجزة ( روتانا الذي سميت المحطة الشهيرة على اسمه ) ؟ . لن أقول من الذي وافقني أو عارضني أو تحفظ لكن ما دفعني إلى استعادة تلك الواقعة هو ما جرى منذ أيام قبيل وبعد مباراتي مصر والجزائر فى كرة القدم للتأهل لمونديال 2010 فى جنوب أفريقيا من أحداث تطرف أفضت إلى موجة هوس وتشنجات على الجانبين غير مسبوقة والى إصابة العديد من المصريين على ايدى جزائريين وتحطيم مشاريع ومحال ومنازل ومصانع مصرية بالجزائر وترحيل مصريين عاملين هناك أو إعادتهم إلى بلادهم لتفادى العنف الموجه ضدهم . لقد اختطف التطرف كعادته الشعبين بحيث أن قلة محدودة للغاية هنا و هناك هيمنت على المشهد وفرضت قواعد اللعبة غير عابئة بالنيران التي تشعلها والحطام الذي يتهاوى تحتها من روابط أو مصالح أو منشات أو لعلها واعية بما تفعل بأكثر مما يمكن أن يذهب إليه خيالنا . مرة أخرى عدت إلى علم الجريمة.

اعرف أن الكرة لعبة تثير الحماس الجارف فى الجمهور بكل بلد وان انتشار الفضائيات ساعد على عولمة أشكال التشجيع المتطرفة أحيانا واعرف أن هناك مساحة دوما لما أسميته العنف النبيل فى التشجيع الكروي الذي لا يتجاوز التشجيع الصاخب لمن نؤيد والتهجم الحامي على من ننافس وقد عشت بنفسي طرفا من ذلك اللون الانفعالي من التشجيع فى المباريات بين اكبر ناديين فى مصر وكنت اعرف دوما أن ذلك الانفعال كان فقط جزءا من طقس المشاهدة ولم يولد أبدا اى ميل للعنف الفعلي ضد الآخرين أو كراهتهم ا وتدمير ممتلكاتهم . أكثر من هذا فإنني اعرف انه يحدث أحيانا فى التسابق بين أندية محلية متنافسة فى منطقة قناة السويس بمصر أن يتجاوز الجمهور العنف النبيل إلى العنف الأهوج ولكن تظل السيطرة عليه ممكنة وسريعة لكن كله إلا ما حدث مع مصر والجزائر مؤخرا ومرة ثالثة فتش عن المستفيد . إن مصر هي اكبر مستثمر بالجزائر حاليا ومرشحة لان تأخذ حصة اكبر فى البلد الذي يملك احتياطيات دولية تناهز ال150 مليار دولار ولديه مجاعة استثمارية فى كل المجالات ومن المنطقي معرفة أن من يضع قدمه أولا هناك ستصعب إزاحته لاحقا وتلعب وفرة الطاقة واحتمالات كشف كميات ضخمة من الغاز الطبيعي دورا إضافيا فى إثارة الغرائز الاستثمارية الغربية حيال هذا البلد وفى اعتقادي أن دولا أوربية كانت تسعى إلى عمل ضغوط منسقة مع حلفاء مثل الولايات المتحدة لإجبار الجزائر على فتح أسواقها وتحرير اقتصادها على الطريقة التي ينصح بها عادة البنك وصندوق النقد الدوليين لكن تلك القوى فوجئت ببلد كمصر يسبق ويتواءم مع الواقع الجزائري ومتطلباته ويوثق علاقاته الاستثمارية هناك دون طلبات خاصة ومن هنا جاءت المساعي لإشعال النزاع بين البلدين لوقف تلك المسيرة وكانت مباريات الكرة فرصة مواتية لكنها لن تكون الأخيرة وفى الجزائر أيضا تتقاطع مصالح عديدة وتحاول أطراف إقليمية التأثير على مسار السياسة هناك ولم يكن مناسبا لها أن تنمو علاقات مصر والجزائر اقتصاديا على هذا المنوال وإذا أخذنا فى الاعتبار أن بعض مؤيدي الإسلام السياسي والأجندات المعروفة أصبح لهم ثار مع السياسة المصرية لامكن مع كل ما تقدم تفسير موجة الشحن المريبة التي أججت المشاعر فى الأيام الماضية وأدت إلى ما حصل من أحداث مؤسفة . لا اطلب من احد أن يؤيد رأيي أو أن يعارضه لكن أنبه إلى أن على كل منا أن يأخذ فى اعتباره ألاعيب القوى الكبرى حين يتعلق الأمر بمصالحها أو مصالح المجموعات المنتمية إليها . إن الذين أشعلوا الحربين العالميتين الأولى والثانية وتسببوا فى قتل عشرات الملايين من شعوبهم بسبب التنافس على الأسواق لن يصبحوا فجأة من الملائكة الأبرار اقتصاديا، وكل ما فى الأمر أن اللعبة تغيرت وان ساحاتها أيضا تبدلت . يجب ألا ننتظر حتى نسمعها : " انتهى الدرس يا غبي "بحسب المسرحية الكوميدية المصرية المعروفة فالوعي بما يجرى تحت السطح أصبح ضرورة حياة لكل دولة عربية بل ولكل مواطن على أراضينا صحفيا كان أم مشجعا كرويا أم مستثمرا الخ.

mesbahkotb@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق