الثلاثاء، 2 مارس 2010

مراكز الفكر ومرحلة الـ " ما بعد "

كثيرة هي المرات التي سمعنا فيها ونسمع عن مراكز التفكير – ثنك تانكس- فى أمريكا وأهميتها وتأثيرها على صناعة القرار ومدى وقوف الشركات والحكومة وراء دعمها وعن هذا المثقف أو الأستاذ الذي زار منها هذا المركز أو ذاك وأعجبه مستوى التعمق و البحث الجاد الذي تعمل به وكثيرة هي أيضا الدعوات التي انطلقت وتنطلق فى ندواتنا ومؤتمراتنا لإقامة " ثنك تانكس" عربية ومحلية لبحث قضايانا والتحديات التي تواجهنا وأحسن السبل للتصدي لها غير أن ما يدعو إلى الحزن والأسى أن لدينا بالفعل كعرب مراكز تفكير على مستوى رفيع فى عدة مجالات مهنية و علمية واقتصادية واجتماعية وتكمن المشكلة ليس فى عدم وجودها أو وجودها بعدد صغير ولكن فى عدم وجود طلب حقيقي فى المؤسسات الرسمية أو في المجتمع نفسه على العلم والعقل ومنتجاتهما اى على ما تقدمه تلك المراكز ما يقود إلى خفوت صوتها وتراجع مبادراتها وانزواء أصحابها أو انصرافهم إلى الشأن الخاص أو إلى الهجرة إلى بلاد تقدرهم .
ولعل مراكز الفكر الاقتصادي فى الوطن العربي من أكثر الحالات التي ينطبق عليها ما تقدم فهي تحفل بعقول جبارة ومخلصة وواعية بمتطلبات التكامل والتعاون العربيين وهى على صلة بكل ما هو جديد فى مجالها فى الحقل المعرفي الذي تعنى به كما أن بها أيضا تنوعا فكريا يقدم نموذجا للتفاعل الحي الصادق بين التيارات المختلفة لصالح مشروع النهضة العربية والعزوة الاقتصادية القطرية من دون تجريح أو ممالاءة أو تفريط ومن حسن الحظ أكثر أن فى الدول العربية كذلك عدد من الاقتصاديات البارزات – اسميهن وزيرات اقتصاد الظل - اللواتي ينشطن فى مراكز التفكير المشار إليها ومع ذلك فان حجم الاستفادة من كل ذلك لا يتكافأ بحال مع الجهد المبذول والإمكانات الكامنة. بعد كل ما تقدم أود أن الفت من يود أن يلقى السمع إلى أن الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية وهى منظمة مجتمع مدني مستقلة (تأسست منذ أكثر من 20 عاما ) وتعد من أهم مراكز الفكر الاقتصادي عربيا (يرأسها حاليا الدكتور منير الحمش ) ستعقد مؤتمرها السنوي فى بيروت يومي 19 و20 ديسمبر المقبل تحت عنوان " الاقتصاديات العربية وتطورات ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية " وسيناقش المؤتمر قضايا عديدة على رأسها كفاءة أسواق المال العربية والحدود الجديدة لدور الدولة ومدى فاعلية مؤسسات الرقابة المالية وما هو المطلوب لتطويرها بما ينسجم مع استحقاقات المرحلة المقبلة وانعكاسات الأزمة على قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات وخبرات التعافي فى البلدان العربية وإمكان مساهمة العرب فى صياغة النظام المالي العالمي المرتقب كما سيبحث أداء الصناديق الاستثمارية العربية والخطط الدولية – المقترح الصيني بالتحديد - لإحلال عملة جديدة محل الدولار كعملة احتياط دولية وسيناريوهات التعاون العربي فى عالم ما بعد الأزمة الخ .يلفت النظر أن عددا لا يستهان به من المؤسسات العربية – والعالمية- مشغول الآن ب " ما بعد الأزمة" وقد برز ذلك العنوان فى أكثر من بلد وأكثر من محفل مؤخرا ويمكن تسمية المرحلة التي نعيشها ب " ما بعد" غير انه يتعين ألا نفهم أن " ما بعد" تعنى أوتوماتيكيا انتهاء الأزمة أو قدوم الانتعاش فما لازال هناك ما يجب عمله والمهم أن الجمعية العربية تسبح هنا فى التوقيت الصحيح مع تيار أل " ما بعد" ولكن بلغتها الخاصة لان همها عربي ولغتها عربية والطريف هنا أن مصر ستشهد يومي 14 و15 ديسمبر عقد " ملتقى القاهرة للاستثمار" وقد غلبت على كل عناوين حلقاته النقاشية عبارة " ما بعد الأزمة العالمية" حيث سيتم فيه مثلا استعراض أداء الاقتصاد العربي بعد الأزمة المالية العالمية و تقييم التطورات المتوقعة للصادرات والواردات العربية فيما بعد الأزمة ومناقشة مستقبل قطاع الطاقة فى العالم العربي بما فى ذلك مشاريع الكهرباء والنفط والغاز والبتروكيماويات بعد الأزمة العالمية وسيتطرق أيضاً إلى مستجدات الإشراف والرقابة المصرفية والمالية من خلال ارتباطها بالأزمة المالية العالمية وهكذا.

وقد اجتذبت الجمعية العربية كما عرفت إلى مؤتمرها البيروتي عددا من الباحثين الشبان قدمت لهم منحا لدراسة الموضوعات محل الاهتمام وبهذا يتقابل حماس الشباب مع حكمة الكبار فى ساحة الجدل العلمي المعنى بالواقع وتلك سنة محمودة وقد علمت أيضا أن الدكتور محمود محيى الدين وزير الاستثمار المصري – وهو بالمناسبة عضو منتخب فى مجلس إدارة الجمعية – اقترح استضافة خبراء من البنك وصندوق النقد الدوليين وسيكون هناك مائدة مستديرة يديرها الوزير بنفسه حول خطط الإنعاش الاقتصادي ومستويات المديونيات الحكومية وتأثيرها على عجز الموازنات مستقبلا .وسيشارك كذلك خبراء صندوق النقد العربي وتلك الصيغة المنفتحة أيضا للبحث تدعم من قدرة ومصداقية مركز الفكر العربي الرصين المسمى بالجمعية العربية المشار إليها. ويعرف المتابعون أن مركز دراسات الوحدة العربية الذي يقوده الدكتور خير الدين حسيب يقدم تسهيلات لعقد المؤتمر وإنجاحه وقد ناقشت الجمعية فى العام الماضي - خلال مؤتمرها الذي عقد بالأردن – دور القطاع المالي فى التنمية العربية غير أن مؤتمرها هذا العام سينعقد بعد أيام من انتهاء الاجتماع الوزاري لمنظمة التجارة فى جنيف لبحث إنهاء جولة الدوحة لتحرير التجارة الدولية بعد أن استمرت المداولات والخلافات تعطل ذلك منذ 2001 وحتى الآن وليس من المتوقع أن يفضى اجتماع جنيف إلى الكثير رغم النبرة المختلفة نسبيا التي تصدر عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي هذه الأيام بخصوص السلع الزراعية – وعلى رأسها القطن – وهى اكبر عائق أمام إنهاء الجولة وفى اعتقادي أن اهتمام الجمعية العربية بما تسميه دائما " عولمة عادلة" سيجعلها تعرج إلى مشاكل التجارة العالمية وتفاعل العرب معها ومنطقة التجارة العربية الحرة وسبل دفعها.

سيشهد الحدث فعاليات أخرى بالطبع إلى جانب لقاءات رسمية وغير رسمية بين المفكرين الاقتصاديين العرب وبعض صناع السياسة الاقتصادية والمالية العرب وكل ما أمله أن يلقى ما يتم طرحه فى مثل تلك المنتديات عناية جامعاتنا وإعلامنا وصحفنا وأجهزتنا الرسمية ومنظمات المجتمع المدني الأخرى المعنية ودافعي إلى ذلك معرفتي بمدى جدية واستقامة القائمين على العمل بالجمعية والجهد الذي تم بذله للتحضير للمؤتمر فلا احد من المشاركين غاوي منظرة أو تنقصه الشهرة ولا ينتظر احد منهم جزاء ولا شكرا ولا يعنيه سوى الاستقبال الحي للأفكار ونقدها وتطويرها وإحاطة الناس بها ... إنه المكافأة المعنوية التي تجعل محبي العمل العام قادرين على المواصلة وإلا فلا نلومن إلا أنفسنا إذا انقرض هذا النوع من العلماء ولا نلومن إلا أنفسنا إذا تلفتنا يوما فوجدنا مقرات " الثنك تانكس" العربية مكتوب عليها " للبيع بأعلى سعر" بسبب توقف النشاط . بدلا من أن نندب حظ بلادنا وافتقادها لمراكز فكر كالتي فى " أوربا والدول المتقدمة" فلنقدم العناية اللازمة بكل ما هو فكر أولا.

mesbahkotb@yahoo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق